حبر يرسم حروف من روح الواقع فيخترق بها العقل والقلب من دون قيود أو شروط فأٌقول وأقول

السبت، 26 نوفمبر 2011

"بطلة"


جلست الى جانبي بجسدها الصغير, الهزيل , عجوز شارفت على عقدها الثامن مازلت في نشاط يسمح لها للذهاب و الاياب . جنبا" الى جنب ,مع فروقات شاسعة بين كتفي و كتفها تشاركنا مقعد سيارة الأجرة . كان جلوسي غير صحيح فقالت لي: "تيتا اقعدي جالسة!" فرمقتها بنظرة حب و جاوبتها: "اكيد" . جلوسنا الاجباري معا" أجبرني لا شعوريا" للنظر اليها و التفتيش في تفاصيلها. عجوز خطت الأيام علامات على يديها ووجهها,خطوط طويلة و قصيرة جالسة و متعرجة, كل خط منهن يحكي قصة وجع او فرحة أو حتى قصة بطولة .   خطوط أخرى بالطول او العرض تروي حكايات الحكايات التي عاشتها هذه العجوز بالطول والعرض. تجعيدات و تجعيدات تحمل في طياتها أسرار و تخبىء في جوفها أشياء لا عارف لها حتى اقرب المقربين ,ترسبات ماضي وحاضر أليم . لحظات قليلة حتى لاحظت عليها تغيير دائم لطريقة جلوسها , تارة تتقدم الى الأمام و تارة يمينا" و تارة شمالا" تغير جنبها و تتقدم لتلتزق بكتفي , لم يهدء لها ساكن استغربت ما تفعل حتى عرفت السبب! انها تعاني من مرض ما فهناك رعشة ترافقها فتحاول أن تخفيها باستمرار في حركاتها اللولبية في مكانها محاولة اخفاء هذه الحركة حتى لا تضايقني .  رعشة تراقصها لا اراديا" كل رعشة من جسدها الهزيل تنتفض بحثا" عن الأمان,رعشات من غير استسلام تتالت  تمتلكها و تقيد جلوسها ,فتحاول اغتصابها  لتموه عنها لكن عبث فهي اقوى منها ! لا شعوريا" استمريت في استراق النظرات لأعرف تفاصيلها , حتى رجعت عينيي , لتبحث عن فوارق أخرى تميز هذه الهرمة حتى وصلت لعينيها . أما عيناها فنظراتهما متخاصمتين بلا حل للوفاق , فاليمين تسيير في طريقها تبحث عن الشمال  في حين أن الشمال تمشي في  طريق شمالي تبحث عن مصير بعيد .

حوار صغير دار بينها و بين السائق اعلمني بنهاية المشوار , لقد قاربت هذه العجوز للوصول الى مقصدها. أمسكت بحقيبتها الجلدية التي هي الأخرى عجوز مثلها, و حاولت فتح سحابا استعصى عليها فتحه ليس لقدمه لكن لتتالي سرعة الرعشات في يدها و جسدها الضعيف , هاهي تتمرد عليها و تفتحه مسرعة, فأخرجت الأجرة المحضرة سلفا" ,فناولته اياها برعشات جمدتها بكل غضب و عنفوان, و قائلة :"بنزل على جنب" و فعل السائق ما طلب منه. وقف على مفترق الطريق وأنزلها و قبل أن تنزل نظرت الى جنبها اليمين  وأقبلت الى الرجل الذي يجلس بقرب السائق وقالت:" ماما انتبه" فنظرت متمعنة لمن تتحدث انه, طفل كبير ,ملامحه كبيرة لعقل صغير, تفاصيله و شكله معروفة بين الناس و يطلقون عليه ما يطلقون لكني سأكتفي بأن أسميه "رجل صغير" . ترجلت من السيارة بجسمها الهرم و اتجهت نحو بابه تفتحه و تخرجه ممسكة بيده خوفا"عليه. هو بحجمه يقيس اثنان من حجمها هذا , لكن مازالت قادرة على أن تمكسه و تحميه . بعد أن ابتعدت عن أنظاري استمر تفكيري بها وبجبروت قوتها و قبضتها و عرفت أن كل هذه الخطوط  التي رسمها الزمان لم ترسم من باب الفضول بل رسمت بتعب و شقاء و لم تمر عليها مرور الكرام . رسم شريط حياتها في خيالي فتبين لي بأنها بطلة لا يمكن لأحد أن يعرف قدر العذاب و التعب الذين قد قاستهم هذه المرأة في حالة ابنها هذا الذي لابد له من معاملة خاصة و من القوة  الكثير .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق