الإنسان بطبعه يكره الخسارة بشكل عام بشيء فيه الكثير
من الجبن والخوف، فلك أن تتخيل موقف خسارة شخص. شخص مرّ في حياتنا أو كان جزء لا
يتجزأ منها. كان موجوداً في أيامنا وحياتنا كظلنا أو في لحظات خاصة من فرحنا أو
حزننا، شاركنا ضحكاتنا أو مسح دموعنا، كان قوتنا وقت ضعفنا ودعمنا في قوتنا،
مهللا" للنجاح وسندًا في الفشل، وأوقات أخرى مع ذكريات مختلفة كثيرة أو قليلة.
فجأة بدون سابق إنذار يختفي هذا الشخص من غير وداع أو حتى وصية، تختلف حينها
الصدمة والخسارة على إختلاف مكانة هذا الراحل.
الموت لم
يكن يعني لي شيء، أول حالة وفاة للأسف رأيتها كانت من 10 سنوات من خلال التلفاز ولم
يخطر ببالي للحظة أن من أراه أمامي هو ابن عمي. كان يعمل مع أحد السياسيين ولم أكن
أعرف، في ذلك اليوم المشؤوم حصل إنفجار إستهدف موكبه كل ما حدث قد يكون عادياً حتى
ظهر مشهداً قد يبكي الحجر ، أحدهم يحترق في المقعد الأمامي للسيارة يصارع النيران التي
حاوطته في كل تفصيلة من جسده بدون رحمة كجلاد يعد سجينه لكي يلاقي إعدامه بدون الإستماع
إلى قرار برائته. يحاول الخروج من النيران المشتعلة حوله مستنجداً بالعامة
الذين يشاهدون تنفيذ الحكم والصراع القائم بينه وبين هذه النيران التي تمسكه بغمرة
حقد لتكبله مانعة إياه الخروج من السيارة أو حتى إتاحت
الفرص لأخرين بإخماده. كان هذا المشهد الأصعب على الاطلاق، مشهد قدري فشلت
هوليوود بكل مؤثراتها أن تبتكر هكذا مشهد فيه من الخيال والوجع ما لا يمكن تخيله أو وصفه. مشهد مازن يخرج من نافذة السيارة محاولاً التمسك بالحياة
كما كان دوماً قوياً وجباراً يسعى ويقوم بالمستحيل، محاولت خروجه كانت من أصعب لحظات حياتي، كنت أبكي من فاجعة المنظر ولكن بعد أن
عرفت أنه مازن تحولت كل حروقه لحروق صغيرة في قلبي. كل مرة يفتح
موضوع الإنفجار ابكي من جديد لكن لا أعلم من ماذا؟! لا جواب، فحتى ملاك الرحمة رحل من غير رجعة.
اعتبرت أنها ستكون تجربتي الوحيدة مع الموت وأقواها، لقد توفى كثيرين من حولي لكن لم يعد يعنيني الموضوع ولم أتأثر لهذه الدرجة.
اعتبرت أنها ستكون تجربتي الوحيدة مع الموت وأقواها، لقد توفى كثيرين من حولي لكن لم يعد يعنيني الموضوع ولم أتأثر لهذه الدرجة.
بعد تجربتي الأولى وتأقلمي معها، إعتقدت أن الموت أعطاني
كفايتي من وجعه. في يوم ليس بعيد من سنة ونص تقريبا، وبينما كنت أتحدث مع صديقي سألني سؤالاْ عن الموت حينها سكت مطولاً وسرحت، مجيبة "لا يعني لي شيء
فهو شيء لابد منه" وسألته يومها عن ما يعنيه له فأجاب حينها أنه يخافه وفي
مواقف كثيرة في بدايات الثورة كان يرى الموت امامه.
من 2005 لل 2013 كانت مرحلة ترميم الجراح ونسيان معني الموت بالنسبة لي
بالرغم من أنه في كل لحظة يذكر اسم مازن يتفتح جرح الرحيل من جديد. أما في 2014، سنة لا أحسد عليها فقدت فيها شخصيين كل واحد
منهم بمعزة ومكانة ومحبة مختلفة.
الأول صديقي المصري باسم الذي عرفته من العالم الإفتراضي في أولى
أيام الثورة المصرية،ليصبح حقيقي رغم كل المسافات. مايقارب الثلاث سنوات و القليل من الشهور فيها من الصداقة
والاحترام والاختلاف الكثير. كان رجلاً رائعاً فيه من الذكاء والصدق والتميّز والبراءة صفات أخرى خلق ليتمتع بها وحده، هذا ليس كلامي وحدي إنما هو كلام كل من
عرفه وتعامل معه. كنت أستمتع بنقاشاتنا السياسية، حين يكتب مقالة معينة وقبل نشرها
يأخذ رأي بالرغم من إني أصغر سناً وقد تكون خبرتي أقل، الا أنه كان على ثقة بنقدي
ورأي. كان يشجعني على الكتابة بلحظات كسلي وكان دعمه يكفيني مراراً لأكتب، ولن أنسى
كلمته الدائمة "أنتي كاتبة رائعة ". لدى زيارتي الأولى لمصر كنت أحاول
أن أرتب يوما حتى نلتقي أخيرا، كل مرة كان اللقاء يتعثر، والوقت يخذلنا ونأجله. عند
عودتي من الاسكندرية وبينما أفتح "تويتر" وإذا بالأخبار عن حادث وفاته
يملئ "التايملاين" فقد كان من النخبة إلا أنه كان رمزاً للتواضع، حاولت أن أتماسك
محاولة تكذيب ما أقرأ. بدأت أبكي وأصدقائي من حولي يحاولون فهم ما سبب البكاء
المفاجئ. صدمتي حينها مع خوفي وجبني لم أتجرأ على أن أتصل به لتكذيب كل ما قرأت.
حاولت أن أبحث عن مصادر أخرى للخبر، حتى أخبرتني صديقتي بالخبر حينها فقط تأكدت،
فحادثة سقوطه من شرفة منزلهم لم تكن منطقية وكان هناك علامات تعجب دفن بعدها
الموضوع.
هنا عاد خوف الموت ليستيقظ بي من جديد، وهنا بدأت ألوم نفسي لأني قصرت
في لقاءه أو إستهترت في إيجاد وقت، ومرة أخرى
أواسي نفسي بأن هذا قدره ونصيبي أن لا أراه حتى تكون صدمة فراقه أخف. أكثر ما يؤلمني
بعيداً عن اللقاء، هي أخر كلماتي معه عبر الفايسبوك والهاتف التي رددتها "ما
تخاف حشوفك قبل ما سافر إن شاء الله أكيد" كنت أعطيه تأكيد لشيء ليس لي سيطرة
عليه القدر والعمر، الأن فقط شعرت أن سبب إصراره كان شعوره أن عمره قصير.
حتى هذه اللحظة لم أستطع أنأ اتأقلم مع فكرة رحيله، فكثيراً ما اشتاق لكلماته
وحروفيه من خلال تغريداته ومقالاته المشعة بالتفاؤل والأمل التي كان يبعثرها
في طريق متابعينه ومن يعرفه، أفتقد لنقاشاتنا والدردشات. مازلت حتى اللخظة هذة أحدثه
منتظرة بأي لحظة رداً منه.
أما العزيز الغالي الذي فقدته وأنا مشتاقة إليه، من فارقني من غير وداع
أو عناق أو حتي قبلة هو "بابا" الذي ستخونني كلماتي في الكلام عنه، فما أشعر
به في غيابه أكبر من أن أحدده في كلمات أو أرصه في إحدى القوالب أو أسرده في أسلوب.
قبل وفاته كنت في مرحلة ضغط خاصة بعملي جعلتني أقصر معه، حتى هو بدأ يتذمر من عدم
رؤيتي، فيقولي لي "شو ما إلي حق شوفيك
وتقعدي معي" وغيرها من التعابير التي تظهر تضايقه وإشتياقه لرؤيتي أجلس معه
ونتحدث. لم أكن أعلم تذمره هذا كان يحاول أن يودعني لكن بأسلوبه ولغبائي لم افهم الرسالة جيداً، حاول
إرسالها مراراً وتكراراً ولكن عبث حتى صادف يومين قبل وفاته أني لم أراه مطلقاً بسبب
العمل ولأنه إختار أن ينام باكراً علي غير عادته.
وبينما أنا في العمل وصلني خبر الحادث الذي أصابه خلال عمله، وصلني
مزركش وملون لتخفيف الصدمة عني ولكن كل ما كان يجري حولي قبل معرفة الخبر يقول أنه
قرر الرحيل بدون وداع. رحل من غير أن أقبله أو أحضه أو أقول له أني أصلاً قد إشتقت إليه. لم أتخيل يوماً أنه سيرحل ويتركني. عندما أصابه المرض الخبيث منذ سنتين فصراعه معه وقوته
وتغلبه عليه لم تخيفني يوما، ولم تسمح لإحساس فقدانه بالوصول إلى قلبي أو عقلي. مضت
شهور علي رحيله، مازلت أسمع صوته وصوت مفاتيحه وأتذكر تفاصيله وطيفه في كل زاوية
من زوايا المنزل، أضحك من تعابير كان يقولها لي كلمات لن يقوم أحد بتدليلي أو
قولها لي. احساس قبلته القوية والحنونة بالرغم من أشواك شاربه الكثيف، وحضنه الأقوى
الدافئ الذي كنت أذوب فيه كلما غمرني لأعود فلذة كبده من جديد. والشوق إلى غضبه
الناري الذي كنت الوحيدة القادرة علي التصدي له، ونقاشاتنا الحادة في بعض المواضيع
وتفهمه لأشياء كثيرة وثقته بي وبقراراتي في الكثير من الأحيان. مشتاقة لحديثه
المليء بالمزاح والضحكات كان بمجرد وجوده في مكان ما كان هو من يدير اللقاء بالأحاديث
والحكاوي الطريفة والغير طريفة، فيضع قليلا من لمساته عليها لتكون ذو نكهة خاصة
ومميزة. أفتقد كل تفاصيله ومشتاقة لها اضعاف مضاعفة لإشياقي لكل شيء منه.
إن أردت ان تسألني هل أخاف الموت، فإجابتي هي نعم، أخاف أن أفقد من أحب
وخاصة اذا لعب القدر لعبته ولم يعطني الفرصة لأودعهم. نعم أخاف أن أموت وأعذب
بفراقي من يحبني، ونعم أخاف من الضعف الذي يتراكم داخلي كل مرة مع رحيل أحدهم حتى
وإن إختلفت محبته او معزته، أخاف أن أنكسر رغم إيماني القوي بأنه هذا القدر والنصيب
الذي سيطالنا جميعاً من غير تردد.
ملاحظة: (لا تضيع أي لحظة بدون أن تعبر عما في داخلك لمن تحب أو تهتم فإفعل كل ما تشعر به وقل كل ما لديك من كلمات، لأنه قد يأتي وقت لا تجده أو يكون قد فات الأوان بالنسبة لك، لأن القدر أفضل ما يكون في سرقتنا أو سرقة احبائنا في أوقات أبعد ما تكون مناسبة لنا لكنها مناسبة له)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق